الأربعاء-15 يناير - 12:46 م-مدينة عدن

ٱراء واتجاهات


أنا والأرقام

الأربعاء - 26 يونيو 2024 - الساعة 06:05 م

الكاتب: محمد الخضر المحوري. - ارشيف الكاتب




أحب الأرقام إلى حد الهوس والعشق والشغف، خصوصا حينما تصعد قيمتها إلى الأعلى كصفة لرزمة مالية تخصني😅، تبدو لي في تلك الحالة وديعة لطيفة قيمة، تستحق الاحتفاء والتنويه.

والحقيقة أن حبي لها ليس متوقفا على ما سبق، وإن كان للمال ميزة خاصة يشاركني فيها الكثير حسب ظني.

أحب الأرقام حينما أتعامل بها، تفيدني إلى حد بعيد خصوصا وعلى سبيل المثال حين اتفقد كتبي المحتشدة بضراوة على رفوف مكتبتي المتواضعة، لمحة خاطفة في الأرقام المتسلسلة تطلعك على قائمة الموجودات والمفقودات.

وهي نافعة أيضا إذا ما حان استلام الراتب من إحدى الوكالات، فاحتساب عدد الأشخاص الذين قبلك في الطابور أمر مهم، حتى لا تتعجل وتحدث ضجة، قد تنتهي لا سمح الله بعراك واشتباك بالأسلحة النارية خصوصا بعد انتشارها بكثرة هذه الأيام.

أما فيما يخص ملابسي فلا داعي للاستعانة بها؛ لأنه لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وكذلك بعض مقتنياتي الأخرى أيضا ليست بحاجة لها.


إذن قد يبدو الأمر بعد هذه الإطلالة الخاطفة وكأنني على وفاق معها دائما لكنني في الحقيقة على خلاف ذلك، أكرهها أحيانا لدرجة نسيان كل حسناتها، النظر إلى جانبها السيء يجعلها هكذا تبدو في نظري، مقززة وقبيحة وقميئة، والأجدر التخلص منها على نحو جذري وقاطع.

حقيقة أكرهها حين تغدو صفة لي، حين أتحول إلى رقم معلق في قائمة أرقام سابقة وأخرى لاحقة.
في هذه الحالة بكل تأكيد أنفر منها، لا يحلو لي ذكرها، تغدو في نظري شبحا يتضخم من ابتلاع الأشياء، هي في الحقيقة برأيي وحش متجردا تماما من الشعور...مكنة لفرز الأسماء والأجساد نحو هاوية النهاية...

في الحرب وحدها تغدو على هذا النحو.. يتحول الناس فيها إلى أرقام فقط، مجرد أرقام لا أقل ولا أكثر، وينحى بطريقة استفزازية ونظيفة كل شيء، يغدو الإنسان مجرد رقم...حتى اسمه اللصيق به على الدوام يسقط؛ لهذا لا أحب الأرقام ولا أحب الحرب، لأنني بكل صدق لست رقم، أنا عالم بحد ذاته كما وصفني أحدهم ذات مرة:
فيك انطوى العالم الأكبر...

أنا كون من المشاعر، وبحر من الأماني، ومحيط من الذكريات...أنا حياة...أنا سنبلة ترقص بخفة حيوية على عزف الريح الخالد لإشباع جائع...أنا يد حانية تمر بلطف على رأس يتيم، أنا أخ تستند إلى كتفه أخت، ترى فيه طودا لا يميل، أنا أب يحيل بتيار عرقه الراسيات إلى كومة تراب كي يعيل أفراخه الصغار، أنا أمل..وحلم...وسند...وذخر...وهطول...وغوث...ونجدة....فلا يمكن بحال من الأحوال تحويلي إلى رقم، قد أبدو جسد واحد من أول وهلة، لكن هذه النظرة قاصرة، لكي تعرفني أنت بحاجة للغوص عميقا، لنظرة متأنية تمتد إلى نهاية التاريخ حتى تقرأ كل أسطري..
إذا تمعنت مليا سترى السماء المرسومة بلا عمد في خافقي، وفي أيضا سترصد الشهب المارقة بأريحية، والسحاب المتهادي بروية أيضا، ولن يفوتك أيضا معانقة الريح للسهل والجبل...

حق ستراني هناك وأنا أغرس شجرة، أتعاهدها بالسقيا والحنان والعشق، أغرز منجلي في الأرض الجرداء فتنبعث منها الحياة في أبهى صورها، أنصت قليلا وستسمع عزفي المنساب بين المروج الخضراء يتلمس في تؤدة أذان العشاق، وتسمر لحظة ريثما يمر شعري فاردا جناحيه ينثر الحكمة والألق والجمال...

ثق أنك سترى أكثر من هذا....

ثم تلومنني إن أبديت حنقي منها وعدم رضاي، مثلي لا يلام لأنني بحضرتها أسلخ من كل شيء يمثلني، هي أيها العزيز تبتر جذوري، تنزع كينوتني الحقيقية، تقذفها بعيدا، تحولني إلى كومة تراب، فردة صندل، حبة شعير، وأنا لا أحب أن أعامل على هذا النحو من البشاعة، يملؤني غيضا مجرد التفكير في هذا الأمر.

دعني أصيغ الأمر بطريقة أخرى وأقول لك مضيفا إنني حين أتحول إلى مجرد رقم، أمر مرورا عابر على الشفاه، تلوكني الألسن كشيء تافه، ثم تنتقل إلى التافه الذي يليني حيث لا يوجد فاصل قصير يسرد فيه ولو في ثانية من صمت أبله من أنا...


محمد الخضر المحوري