الإثنين-06 يناير - 09:49 م-مدينة عدن

النّظريّة النّقديّة والممارسات اللاإنسانيّة للتّكنولوجيا: الكيان الصهيوني نموذجًا

السبت - 04 يناير 2025 - الساعة 11:08 م بتوقيت العاصمة عدن

فلسطين " عدن سيتي " علي محمد رحومة : متابعات





النّظريّة النّقديّة والممارسات اللاإنسانيّة للتّكنولوجيا: الكيان الصهيوني نموذجًا




أَظهر مفكّرو النّظريّة النّقديّة اليَهود، كما عرضنا في مقالَيْن سابقَيْن، تأثّرهم الكبير بفَلسفاتٍ جَدليّة، وعَقلانيّة، وتَاريخيّة، ومَاديّة، نبعت أُصولُها من فلسفةٍ كانت وجورج هيغل وجورج لوكاتش وأنطونيو غرامشي ومارتن هايدغر... وحاول بَعضهُم التّوفيق بيْن هذهِ الفَلسفَات بِفلسفةٍ نَقديّةٍ تَحليليّةٍ للواقع الحضاري الغربي الحديث، وبخاصةٍ إفرازاتِ المُجتمعات الصّناعيّة، وظهور التّسلط التّكنولوجي على حياة النّاس والاقتصاد والثّقافة والفنّ والأدب، بتأثير المُمارسات السّياسيّة والإعلاميّة التي حوّلت المُجتمعات البَشريَّة إلى مُجتمعاتٍ استهلاكيّةٍ مُغتربَة، مُصنِّعَة الثّقافة والرّأي العامّ، ومُحتكرَة الحاجات.


على الرّغم من انتهاج أصحاب النّظريّة النّقديّة المَنهج المَاركسي، لكنّهم لم يكترثوا حقيقةً بالمَاركسيّة كاملةً، كما قدّمها كارل ماركس وفريدريك إنغلز مثلًا؛ بل ركّزوا منها على نَقْدِ الاغترابِ وأسبابِه في المُجتمع الصّناعي، وتسليعِ الطّبقة العامِلة والجَماهير... وبذلك، لم يَلتزموا عمليًّا مُثُل المَاركسيَّة الأصليَّة بنقدِ النّظام الاقتصادي الرّأسمالي والإيديولوجيّات المُختلفة؛ واتّفقوا على أنّ الواقع المُجتمعي نتاجٌ لوَسائِل الإنتاج الصّناعيّة بفعل التّكنولوجيا كعاملٍ رئيسي، تُنَمْذِجُ المُجتمع في أطرٍ استهلاكيّة، تُبعِدُ أفراده عن هُويّاتِهم.


وطالبوا بضرورة تغيير المُجتمع تَغييرًا ثوريًّا، في أشكاله الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، وتنظيماتِه، وبنية التّفكير، والمَواقف، واللُغة المُستخدمة. لكنّ التّغييرَ المَطلوبَ برأيِهم، ليس بالوسيلةِ المارْكسيّة (الثّورة)، وإنّما بالعقل أو الفِعْلِ العقلي. فالعقل وسيلة التّحرير الأمثل، الذي يمكن تحقيقُه بما يلي:
- تمييز المَعرفة العِلميّة الصَحيحَة التي تخدم النّاس وتُحرِّرُهم من الجَهْلِ والوَهم الميتافيزيقي، الذي يؤدّي بالعقلِ إلى التّناقض.
- الالتزام بقضايا النّاس الحقيقيّة، ودراسة مشكلات الواقع، والكشفُ عن الإمكانات المَوضوعيَّة للاستفادة من التّكنولوجيا إنسانيًّا.


- إذكاء القِيَمِ الإيجابيّة مثل روح العَمل، وتَصحيح الأفكار، وحَفْزُ قدرات التّخيّل، والمُشاركة الاجتماعيّة، وتكافؤ الفُرص، التي تمنحُها التّكنولوجيا.
تُوجّه النّظريّة النّقدية أسئلتَها عن "فائدة الفائدة التّقنيّة" في عصر الصّناعة الغَربيّة وادّعاءاتها التي لا تخدم الإنسان
يَتبيَّن إذن أنّ أصحاب النّظريّة النّقديّة، يَروْن أنّ التّحرّر من هَيْمَنَة التّكنولوجيا واستبدادِها يَرتبط بالبحثِ عن فائدة خدمات المُنتجات التّقنيّة، وما لم تَكُنْ لصالحِ الإنسان فهي بلا فائدة أصْلًا، وأضْرارها أكْثر من منافعِها... فقد أَنْتجَت، واسْتَنْسَخَت، ومَسَخَت، وسَلَّعت، وقَهَرَت، وطَغَت... هذه الرّؤية الفاحِصة تعود جذورُها إلى عصْر الأنوارِ الذي طرح "العَقلانيَّة"، وحَصَرَهَا في منظورِ الفائدة من الإنتاج البشري أيًّا كان؛ بمعنى أنّ العقلانيّة تبحث عن جَدوى الأَفْعَال، وليس مجرّد تَمَظْهُر الأشياء لِذَاتِها، لاعقلانيَّا، ودونما فائدة ما. وبالتّالي، تُوجّه النّظريّة النّقدية أسئلتَها عن "فائدة الفائدة التّقنيّة" في عصر الصّناعة الغَربيّة، بمختلف صورِها، وادّعاءاتِها، التي لا تخدم الإنسان في جوهرِه وحقيقتِه، ولا تحافظ على هُويّتِه وقيمِه وأخلاقِه المُثلى. سواء كانت طروحات وممارسات الرّأسماليّة أو الشّيوعيّة أو النّازيّة والفاشيّة...


من هذه النّاحية، يُعْتَبَر أنّ أعْلامَ مدرسة فرانكفورت ساهموا في تَمهيدِ الطّريق لظهورِ منظورات عصرِ ما بعد الصّناعة الحالي، وما بعد الحداثة في أشكالِها العَوْلَمِيَّة المُتعدّدة، والتّساؤل عن "فائدة الفائدة الصّناعيّة والتّكنولوجيّة"، خصوصًا بعد هجرتِهم إلى الولايات المتّحدة هروبًا من النّظام النّازي الألماني الذي أغلق معهدَهم سنة 1938، وساهموا بعدئِذٍ بأفكارهِم وتحليلاتِهم النّقديّة في تغييرِ المُجتمع الأميركي، وظهورِ حركات تَحرّريّة عديدة.

نتساءل الآن، ماذا بقي من هذا الفِكر النّقدي الإنساني، وهل أحفاد اليَهود الصّهاينة، المُتنفّذين، يمثّلون اليوم ما ناضل من أجلِه أبرزُ مفكّريهِم المَذكورين، أم أنّهم يمثّلون شرَّ خلفٍ لهم؟... لنُراجِع سريعًا أبرزَ الأفكار التّقدميّة الواردة بالخصوص:


- ماكس هوركهايمر: تَحرير الإنسان من قَهْرِ التّقنيّة، وتخليصِه من ارتهانِه للآلة الصّناعيّة، تحت طغيانِ العقلِ الأداتي...
- تيودور أدورنو: تحرير الإنسان من الاستِعباد والتّسليع والاغتراب والتّشَيُّؤ، ومقاومة الشّخصيّات الاستبداديّة...
- هربرت ماركيوزه: رفض الهَيمنة الاقتصاديّة والتّكنولوجيا المُتَحَكِّمَة بطريقة علميّة ماكرة، وتكمُن مصالحها المُستهجنَة في تَصميمِها وبنائِها التّقني، فتكرّس السّيطرة وتُحجّم الإنسان في بعدٍ واحد...


- والتر بنيامين: التّكنولوجيا تُنتجُ قِيَمًا جديدة تتأثّر بالسّياسة، فيُصبح كل شيء استهلاكيًّا، مُتحكَّمًا فيه، والتّاريخ يصنعُه المُنتصرون الأقويَاء؛ فيلزم تصحيح الأفكار وتعزيز القِيَمِ الإيجابيّةِ للتّكنولوجيا، والالتزام بقضايا الإنسان الحقيقيّة.

لا يخفى ما في شخصيّة نتنياهو الاستبداديّة من صفاتٍ تنطبق تمامًا على صفات الشّخصيّة المُستبدَّة التي حدّدَها أدورنو
كل هذه الأفكار الإنسانيّة القيّمة ضدّ التّسلّط التّكنولوجي الغربي، تُعارضُها حاليًا ممارساتُ دولة الكيان الصّهيوني. وبالأخصّ في إظهارِها لثلاثِ ممارساتٍ لاإنسانية، وهي: تَوَحّش القوّة التّقنيّة العَسكريَّة؛ ونَشْوَة الانتصار على الضُّعفاء؛ وجُنون العَظَمَة والاستبداد... مثال ذلك، رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو) وقوّاته الهمجيّة، وما قاموا به من أعمالِ إبادةٍ جَماعيّة في غزّة وجرائِم حرب في لبنان، باستخدام أَعْتَى الأسْلحَة الإلكترونيَّة والذّكاء الاصطناعي!... ولا يخفى ما في شخصيّة نتنياهو الاستبداديّة من صفاتٍ تنطبق تمامًا على صفات الشّخصيّة المُستبدَّة التي حدّدَها أدورنو في كتابه "الشّخصيّة الاستبداديّة":
- الوَلاءُ الأعمى للمُعتقداتِ التّقليديّةِ الوَاهمَة (الحلْم اليَهودي الصّهيوني المتطرّف).

- الخُضوعُ والانقيَاد التّام للسّلطة وتبجيلِها (التّشبُّث بالحكْمِ وسلطة تكنولوجيا الحرب).
- إظهارُ العَداوات لجميع الذين لا يتّفقون معهم (عداوته لمُخالفيه حتّى الأصدقاء).
- إظهارُ وُجهات نَظرٍ سلبيّة تجاه البشريّة (لا يهمّه ما قد تجرّه حربُه الهمجيّة من كوارثَ على الإنسانيّة جمعاء).

- الاعتقادُ بحلِّ مسائِلَ في غاية التّعقيد من خلال أطروحاتٍ مُبَسَّطَة (يتجاهل النّضال الفلسطيني والعربي الطّويل، ويتناسى كَونه محتلًّا غاصِبًا للأرض بقوّة السّلاح).
- الميلُ إلى إسقاطِ مشاعرِ الإحباطِ والغضب على الآخر (يبرّر خسائرَه المادّيّة والمَعنويّة الفَادحة، بمزيدٍ من العُدوان على الأبرياء العُزّل).

وأخيرًا، يَتَبَجَّحُ نتنياهو بجنونِ القوّة وانتصار تاريخِه الوَهمي، فيقول: "إنّ إنشاء إسرائيل كان بانتصارِها في الحرب، وليس بقرارٍ أممي"؛ ردًا على الرّئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي قال بتاريخ 16/10/2024: "على نتنياهو ألّا ينسى أنّ إسرائيل أُنْشِئَت بقرارٍ أُمَمِي".




"عروبة 22"

متعلقات