الإضافة الحقيقية التى صنعها عبد الحليم حافظ هى أنه جعل تعبير الصوت أهم بكثير من درجة قوّته

السبت - 11 يناير 2025 - الساعة 01:26 ص بتوقيت العاصمة عدن

مصر " عدن سيتي " محمود عبدالشكور



الإضافة الحقيقية التى صنعها عبد الحليم حافظ هى أنه جعل تعبير الصوت أهم بكثير من درجة قوّته


( من مقال سابق نشر عن عبد الحليم )


" الإضافة الحقيقية التى صنعها عبد الحليم حافظ هى أنه جعل تعبير الصوت أهم بكثير من درجة قوّته، صوت عبد الحليم ضعيف بالمعايير الكلاسيكية، يمكن مقارنة هذا الضعف مثلا بقوة صوت شقيقه الكلاسيكى تماما إسماعيل شبانة، والذى برع فى أداء أدوار سيد درويش، ولذلك قيل إنه لولا وجود الميكروفون لما نجح عبد الحليم ، ولما واصل طريقه، كل هذا صحيح، ولكن من قال إنه أراد أن يكون كلاسيكيا يغنى بدون ميكروفون فيسمع كل من فى الصالة؟ لقد أراد أن يبسط الأداء ويشحنه بدرجة تعبير مذهلة ( قراراً وجواباً) يمكن قياسها على مؤشر يبدأ من نعومة "أنا لك على طول" و" يا فايتنى وهان حبى" ، وينتهى بقوة وضخامة "جبار" أو " يا بحر الثورة يا هادر"، وبينهما شقاوة "ضحك ولعب و جد حب" ، وحزن " فى يوم فى شهر فى سنة"، وبهجة " يا مغرمين يا عاشقين"، وشجن "وسهرت استنى والنجم معايا"، ورقة " يا خلّى القلب". كان يمتلك مستودعا جاهزا للتعبير، وكأنه يعبر صوتيا عن دراما الموقف، ثم يضيف إليه حلاوة متفردة.
نستطيع أن نلخص الثورة التى حققها عبد الحليم فى الغناء العربى فى أنه كرّس فكرة أن يكون الغناء إحساساً وليس عضلات، فانقلبت معايير التقييم رأسا على عقب: من الإستعراض الصوتى الى القدرة على التعبير والتلوين الدرامى وفقا لمعنى الأغنية. لم يخترع عبد الحليم هذا الأمر، الذى نجد نماذجه الناضجة فى ألحان سيد درويش، ولكن عبد الحليم أخذه الى آفاقه القصوى، بدون أن يهمل قدرته على الإستعراض الصوتى لو تطلب الأمر ذلك، على أن يندمج ذلك مع التعبير المطلوب ، استمع إليه مثلا فى استخدام الجواب والقرار معا فى جزء " قول يا قلبى/ قول يا أملى" من لحن عبد الوهاب (قوللى حاجة)، حيث لا ينفصل الإستعراض الصوتى عن التعبير عن فكرة الرجاء بكل مستوياتها من الصراخ الى الهمس، ، وقد منح العزف على الأوبوا عبد الحليم قدرة صوتية مدهشة، صار قادرا على التلوين وضبط النفس والأداء ومزجه بإحساسه العالى بالكلمة واللحن، وأصبحت إمكانيات الصوت وسيلة للتعبير، وليس هدفا أو غاية، ولهذا اعتبر الناقد الموسيقى الكبير الراحل كمال النجمى أن عبد الحليم هو صاحب لهجة غنائية خاصة فى فن الأداء.
عندما تقدم عبد الحليم لأول مرة الى لجنة الإستماع فى الإذاعة رفضوه، وكان مبرر الرفض أنه يؤدى بطريقة خواجاتى.أرادوا القول إنه كسر الأداء الكلاسيكى، وقلب المعادلة تماما، فأصبح بالفعل قريبا من أداء أغنيات المغنيين الأجانب، الذى يعتمد على التعبير وليس التطريب، ولكنه فعل ذلك بأداء مصرى وشرقى صميم، وهو يمكنه أن يطرب أيضا ولكن من خلال أجواء الأغنية، فعندما يقول : " يا ليييل " فى " كامل الأوصاف" يطرب بها من خلال معنى الأغنية، لقد صار مفتونا يطرب بكلمة " ياليل " بسبب محبوبه، وليس لأنه يكرر ما قاله المطربون عبر التاريخ .
لاحظوا مثلا أغنية "يا قلبى خبى" التى اكتشفتها مرتين: مرة عندما سمعتها فى فيلم "أيامنا الحلوة " لأول مرة، والثانية عندما استخدمها الراحل عاطف الطيب فى فيلم " سواق الأوتوبيس" على شريط الصوت ضمن مشاهد الفوتو مونتاج التى تسجل لقاء الأصدقاء، والتى تنتهى باللقاء البديع عند الهرم ليلا ، الأغنية عن فقد الحبيب ، ولكنها تفيض رقة وعذوبة ممتزجين بالشجن النبيل، فاختلط فيها الطرب مع التعبير فى سبيكة واحدة.
كان صوتا جميلا، ولكنه جعل لهذا الصوت أداء أجمل وأبسط وأكثر تعبيرا "
محمود عبد الشكور الناقد الفني

متعلقات