كشف تقرير أميركي مطول عن خشية إيران من خسارة نفوذها في العراق وهو ما يعني فقدان أهم أوراق نفوذها في الشرق الأوسط والتي بنتها منذ ثورة 1979، والتي أصبحت مع مرور الوقت، ما يُعرف بـ"محور المقاومة" وأداة رئيسية لطهران لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
إلا أن التطورات الأخيرة غيرت المشهد الإقليمي، حيث فقدت إيران السيطرة على اثنتين من العواصم الأربع التي كانت تتباهى بها، حرب إسرائيل ضد حزب الله أضعفت سيطرة الجماعة على بيروت، كما خسرت سوريا مؤخرا لصالح منافسين آخرين في المنطقة وباتت أميركا أمام فرصة حقيقية لتغيير الأوضاع السياسية في العراق وتعزيز نفوذها.
العراق كأولوية إيرانية
وبحسب مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، يُعد العراق أحد أهم البلدان بالنسبة لإيران، سواء من الناحية الاقتصادية أو الاستراتيجية. فهو خامس أكبر منتج للنفط عالميًا، ويعمل كمنفذ لتجاوز العقوبات المفروضة على طهران. إضافة إلى ذلك، تهيمن الميليشيات العراقية الموالية لإيران، مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، على أجزاء واسعة من الاقتصاد العراقي، مما يسمح لطهران بتمويل عملياتها في المنطقة عبر شبكات تمتد إلى النفط، والاتصالات، والسياحة الدينية، والبنية التحتية.
ورغم النفوذ الإيراني الكبير في العراق، فإن التطورات الأخيرة أظهرت مؤشرات على تراجع قبضتها. فالميليشيات المدعومة من إيران امتنعت عن مهاجمة القوات الأميركية منذ ديسمبر 2024، ما يشير إلى خشيتها من رد فعل واشنطن. كما قدمت حكومة محمد شياع السوداني، المدعومة من إيران، عدة تنازلات للولايات المتحدة، مثل إطلاق سراح الباحثة إليزابيث تسوركوف، وتمرير تعديل مالي قد تم رفضه سابقا لصالح الأكراد المتحالفين مع أميركا، وحذف مذكرة اعتقال ضد الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
الاستراتيجية الأميركية لاحتواء إيران
وترى واشنطن أن هذه اللحظة تشكل فرصة لإضعاف النفوذ الإيراني في العراق دون اللجوء إلى التدخل العسكري المباشر، بل من خلال الدبلوماسية والعقوبات والعمليات الاستخباراتية. ويعتبر تقليص الهيمنة الإيرانية على بغداد خطوة حاسمة لتعزيز الاستقرار في المنطقة، وتقوية الحكم العراقي المستقل، وتحجيم الموارد المالية التي تعتمد عليها طهران لدعم وكلائها الإقليميين.
وتعتمد إيران على العراق كمصدر أساسي للتمويل، خاصة في ظل العقوبات التي تعرقل صادراتها النفطية. فقد أصبحت بغداد سوقًا سوداء للنفط الإيراني، حيث يتم تهريبه وإعادة تصديره على أنه نفط عراقي. كما تستفيد طهران من الميليشيات المدعومة منها لسرقة الموارد، سواء عبر السيطرة على آبار النفط أو تأسيس شركات وهمية تحصل على وقود مدعوم من الحكومة العراقية.
إضافة إلى ذلك، يُعد الحشد الشعبي الذي يتلقى أكثر من 3 مليارات دولار سنويًا من ميزانية الدولة العراقية، أداة رئيسية للنفوذ الإيراني. إذ تذهب معظم هذه الأموال إلى ميليشيات ترفض الامتثال للحكومة العراقية، وتشارك في عمليات عسكرية تخدم مصالح طهران، سواء في الداخل العراقي أو في سوريا.
إيران تخشى فقدان العراق
ولا ترتبط أهمية العراق لإيران بالاقتصاد فحسب، بل أيضًا بالرمزية السياسية والدينية. إذ يُشكل العراق عمقًا استراتيجيًا لإيران، حيث يسافر ملايين الإيرانيين سنويًا للحج والأعمال. لذلك، فإن أي تراجع للنفوذ الإيراني في العراق قد يؤدي إلى انعكاسات داخلية على استقرار النظام الإيراني نفسه.
ورغم الفرصة المتاحة أمام واشنطن لتقليص نفوذ طهران في العراق، فإن إيران لا تزال تمتلك أدوات قوية للحفاظ على سيطرتها. فهي قادرة على التأثير في الانتخابات العراقية، كما فعلت في 2018 عندما دعمت عادل عبد المهدي، وكذلك في 2021، عندما تمكنت من التلاعب بتشكيل الحكومة بقياد السوداني على الرغم من خسارة الفصائل الموالية لها في الانتخابات.
كما أن إيران تمتلك نفوذًا سياسيًا وعسكريًا يسمح لها بالتدخل عند الحاجة، سواء من خلال فرض رئيس وزراء موالٍ لها، أو استخدام الأراضي العراقية لشن هجمات على القوات الأميركية. لذلك، فإن إضعاف سيطرتها يتطلب مواجهة مباشرة من قبل واشنطن، عبر فرض عقوبات على الشخصيات العراقية المتعاونة مع طهران، ووقف الدعم للحكومات التي تخدم المصالح الإيرانية.
استراتيجية أميركية جديدة
وترى الولايات المتحدة أنه لم يعد من الضروري دعم رؤساء الوزراء العراقيين الموالين لإيران، كما فعلت في السابق خوفًا من الفوضى أو عودة داعش. ولذلك، يجب على واشنطن أن تعلن بوضوح عدم دعمها للسوداني، وعدم دعوته إلى البيت الأبيض.
كما يجب على الولايات المتحدة مراقبة الانتخابات العراقية المقبلة في أكتوبر 2025، وضمان شفافيتها، ومعاقبة أي تدخل إيراني. ومن الضروري أيضًا فرض خطوط حمراء واضحة أمام الحكومة العراقية، والضغط على القادة العراقيين لمنعهم من الخضوع للمطالب الإيرانية.
وفرضت إدارة ترامب السابقة عقوبات على العراق لمنعه من شراء الكهرباء الإيرانية، واتخذت خطوات للحد من تجارة النفط غير المشروعة. ويمكن للإدارة الأميركية الحالية الاستمرار في هذا النهج للضغط على إيران. وعلاوة على ذلك، فإن تقويض النفوذ الإيراني في العراق قد يمنح الولايات المتحدة ورقة ضغط في المفاوضات النووية مع طهران. إذ تدرك إيران أن فقدان العراق سيضعف موقفها الإقليمي، ما قد يدفعها إلى تقديم تنازلات في الملف النووي.
وعلى مدار العقد الماضي، تجنبت الإدارات الأميركية مواجهة الشبكات الإقليمية لإيران أثناء المفاوضات النووية، بسبب تعقيد هذه الشبكات وصعوبة تفكيكها. ولكن بعد ضعف حزب الله في لبنان، وسقوط الأسد في سوريا، بات من الممكن للولايات المتحدة العمل على تقليص النفوذ الإيراني في العراق، ما سيؤثر على قدرة طهران على تمويل برنامجها النووي وأذرعها في المنطقة.