نظرية المؤامرة والقطيعة المطلوبة
الجمعة - 28 مارس 2025 - الساعة 04:13 ص بتوقيت العاصمة عدن
الوطن العربي " عدن سيتي ". حسن حافظ : متابعات
انتشرت نظرية المؤامرة في العقل العربي المعاصِر حتّى استقرّت، وباتت محاولة كشف عوارها وتحدّي مسلّماتها غيْر المختبرة من الصعوبة بمكان، فالحاضر العربي يعاني من تخمة الإيمان بهذه النظرية بالتوازي مع ما نعيشه من تراجُع في المجالات كافّة.
تُعبّر تلك النظرية عن مرضٍ كامن في العقول الهشّة والنفوس المضطربة التي ترفض التعاطي العِلمي مع الوقائع، وتمنع استقبال مجريات الأحداث على وضعها الصحيح، والذي يُمكّن من بناء رؤية صحية تقوم على الاشتباك مع الوقائع وتحمّل مسؤولية ما تجرّه من فهم، ليكون البديل هو ذهان اتهام الجميع بالتآمر على العرب والمسلمين، وأنّه لا يمكن دفع خطوط المؤامرة التي تبدو هنا سنة كوْنية لا نملك دفعها ولا الفرار من تبعاتها.
استقرّت سرديّة نظرية المؤامرة في تاريخ المسلمين، وأصبحت هي المحرّك الوحيد لحركة التاريخ في ذهنية الكثيرين، بدايةً من استخدام عبد الله بن سبأ باعتباره ابن السوداء اليهودي المحرّك الأول للفتنة الكبرى، واستخدامه للتغطية على التفاعلات التاريخية في مجتمعات العرب المسلمين التي أدّت إلى تفجّر العنف في صورة اقتتال أهلي عنيف بين القبائل العربية، هنا العقلية السكونية ترفض تحدّي خمولها وتعيد مركزة نفسها على أسباب خارجية لا تخصّ مجتمعاتنا.
نظرية المؤامرة مريحة لمن يريد أن يقتل عقله ويُغلق باب ملكة التفكير
حلّت نظرية المؤامرة محلّ فكرة الصراع بين إرادات مختلفة وصاحبة مصالح متضاربة كمحرّك أساسي للتاريخ لتعزيز شعور الاضطهاد والمظلوميّة التاريخية.
هذا الأمر متكرّر عبر صفحات التاريخ فقد بُلينا بتيّار يدّعي أنّ كلّ زعيم أو قائد حركة لا يعجب أبناء هذا التيار "أمّه يهودية"، هكذا يتحوّل إلى جزء من المؤامرة اليهودية المزعومة التي تُحرّك كلّ شيء ضدّ العرب، كتبرير لثقافة العجز وتعميق الهزيمة الداخلية وإنكار الفعالية التي تُحمّل الأفراد والشعوب مسؤولية ما وصلوا إليه من تراجع وانهيار حضاري وسياسي وثقافي، فهي نظرية مُريحة لشعوب خرجت من السباق الحضاري ولا تريد أن تدخل مضمار السبق، فلا يوجد عالم يحترم نفسه يستطيع أن يختصر التفاعلات الإنسانية المتعدّدة في نظرية المؤامرة الكوْنية التي تُعبّر عن عبثية لا فكرية تساعد على عطالة العقل العربي ورسوخه في أوضاعه الكارثية الرّاهنة.
هناك نموّ مع الزمن لنظرية المؤامرة، نعم هي موجودة في ثقافات ولدى شعوب أخرى لكن هي عندنا أوضح وأكثر رسوخًا، فهي مريحة لمن يريد أن يقتل عقله ويُغلق باب ملكة التفكير، هذا نراه في عصور تاريخية مختلفة، مثلما حاول البعض أن يفسّر الحملات الصليبية باستدعاء الفاطميين الشيعة كجزءٍ من المؤامرة على المسلمين، أو استدعاء الشيعة للمغول، أو تحليل أي شيء باعتباره مؤامرة مجوسية على العرب والإسلام، وهي محاولات ساذجة تضحّي بأي منهج عقلاني لقراءة التاريخ، وتفكيك أسباب الوقائع وتحليل دوافعها، ربما يكون هذا مقبولًا في العصور ما قبل الحديثة، لكن أن تستمر هذه الروح ويقتنع بها قطاع عريض من العرب اليوم فهذه مشكلة تعمّق من المأزق الذي تعيش فيه مجتمعاتنا العربية.
لن نخرج من الهوّة إلًا بتفكيرٍ حرٍّ وأن نعلن القطيعة مع نظرية المؤامرة وما تجرّه من تفكير سلبي استسلامي
رسّخت نظرية المؤامرة التي تقوم على التفسير غير العقلاني والماورائي للأحداث، من وجودها في الذهنية العربية، وأصبحت الأداة المفضّلة لتفسير أي حدث؛ خصوصًا في لحظات الهزيمة وما أكثرها راهنًا، وظهرت في ثوب عقيدة مريحة يعتنقها الكثير من العرب، الذين يفضّلون الاستناد إليها بديلًا عن أي مقاربة جادة تحلّل أسباب الهزيمة وتبحث عن عوامل النهوض منها، فالتفكير بالمؤامرة سهل مريح لأنه يُسقط أي مسؤولية عن العرب في تحمّل الواقع الذي يعيشون فيه، ولا يدفعهم بالتالي إلى أي محاولة لتغييره، فكيف تُغيّر ما لا تستطيع دفعه؟
تغرق الكثير من كتب العرب في إطار التبرير والدفاع البكائي، ومحاولة التشويه العاجز للوقائع، والالتحاف بغطاء نظرية المؤامرة، وهي نوعية سهلة من الكتب التي تدغدغ مشاعر الجماهير بإسقاط أي تكليف حضاري عن كاهلها، ما يؤدي إلى انتكاسة وانتكاسات العقل العربي المعاصِر، ولن نخرج من هذه الهوّة إلًا بتفكيرٍ حرٍّ مشتبكٍ يختبر جميع المقولات، ويتسلّح بالمناهج ويتشكّك في كل الأطروحات، ويكون هدفه محاولة الوصول إلى فهم الوقائع، لا الانتصار لأفكار مسْبقة لم تُختبر، أن نعلن القطيعة مع نظرية المؤامرة وما تجرّه من تفكير سلبي استسلامي لنواجه المستقبل بروح التحدّي والاشتباك مع الواقع، على أمل فهم ملابساته، ثم العمل على تغييره وفقًا لآليات فهم اللحظة وكلّ ما يحيط بها من تشابكات.
"عروبة 22"