السبت-26 أبريل - 02:51 ص-مدينة عدن

د. سعيد بايونس .. ذاكرة شُقُرة الحية

السبت - 19 أبريل 2025 - الساعة 10:14 م بتوقيت العاصمة عدن

ابين " عدن سيتي " تقرير :تقرير:د علي صالح الخلاقي



أشعر بسعادة بالغة، ويفيض قلبي بهجةً وسروراً، وأنا أشارككم هذا الحفل التكريمي الرائع لصديقي الباحث د.سعيد بايونس ، ابن المحروسة "شُقُرة"، الذي لم يستَتِمُّ حُسنُها وبهاؤها إلاَّ به، فلم نعرف عن تراثها وفنها وخفاياها إلاَّ من خلال ما سطره عنها على مدى سنوات من عطائه الجميل، بجمال روحه المرحة، المستمدة من جمال روح شُقُرة وأهلها الطيبين.
فرغم عراقة شُقُرة وتاريخها القديم، فإن جُلّ ما كنا نعرفه عنها أنها الحاضرة الأولى للسلطنة الفضلية، ثم بمعلمها الأبرز ، بعد الاستقلال الوطني، الذي ارتبط باسمها، وهو "مصنع شُقُرة للأسماك"، الذي شيد في عهد الرئيس الشهيد سالمين، رحمة الله تغشاه، وظل ذلك المصنع الشهير، بإنتاجه الوفير، يطعمنا من خيرات شُقُرة من الأسماك بجودتها المميزة، حتى توقف بعد حرب احتلال الجنوب صيف 1994م، إذ حول المحتلون ذلك المصنع إلى حطام، وفقد العمالُ والعاملات من أبناء شُقُرة أعمالهم. وتحولت شُقُرة إلى مدينة هامشية مهملة، ولم نعد نعرف منها سوى الطريق المتهالك الذي يتوسطها ونمر به ذهاباً وإياباً لسنوات طويلة بعد أن جار عليه زمن الإهمال مثلما جار على أهلها في عموم مناطق الجنوب عامة.
أما صفحات تاريخ شُقُرة فكاد أن يطويها النسيان، وغاب ألق فنونها وتراثها الذي لم يلق أدنى اهتمام، حتى قيض الله لشُقُره ابنها البار د.سعيد بايونس، الذي شمر عن ساعده، وانبرى بقلمه وفكره وجهوده، مع كوكبة من مثقفي وشعراء وفناني شُقُرة، لإحياء تراثها وتوثيق تاريخها، وهو اليوم يُعدّ من الأسماء اللامعة في الذاكرة الثقافية لهذه المدينة الغنية بتراثها الشعبي، وقد أتاح لنا من خلال مؤلفاته وأشعاره الوقوف على تفاصيل غنية ومضيئة من ماضيها العريق وحاضرها الزاخر.
اليوم لا تُذكر شُقُرة إلا ويقفز إلى الذاكرة اسم الدكتور سعيد بايونس، كما يقفز العطر من الزهر إذا هَبّ النسيم. لم يكن مجرد باحث أو مؤرخ عابر، بل هو ابن الدار، وساكن الروح، وحارس الذاكرة. كتب عن شُقُرة، وألّف لها، واحتواها بين دفّات كتبه بدفء عواطفه وحرارة حبه، ولم تكن شُقُرة في مؤلفاته وأشعاره وبحوثه ومقالاته مجردَ مكانٍ، بل حالةً وجدانية، ومفردة من مفردات الحنين، وقطعة من ذاته. ومن أراد أن يعرف شُقُرة في عمقها، في حاراتها، في فنونها، في أدبها و"دحيفها" ، في تفاصيل حياتها الاجتماعية والاقتصادية، في رائحة بحرها ونسيمه العليل، التي تتداخل مع أصوات صياديها في سوقهم الذي يعرضون فيه محصولهم، وفي أفراح أهلها، ما عليه إلا أن يقرأ بايونس أو يجلس إليه.
ولا أبالغ أن وصفته بـ(ذاكرة شُقُرة الحيّة) ومُوثِّق فنونها وأدبها وتراثها الأصيل، وهو وصف دقيق ينطبق على د.بايونس تمام الانطباق، إذ لم يُعد مجرّد راصد للماضي البعيد والقريب، بل يعيشه بكل وجدانه، ويجسَّده في أعماله وأحاديثه وكتاباته. يعرفه أهلُ شُقُرة والعاملون في المجال الثقافي بأنه حارسُ التراث، وراوٍ للتاريخ المحلي، وهو من فتح أعيننا وقلوبنا على جواهر هذه البلدة ومكنون تراثها والولوج في أحيائها وأزقتها القديمة وأسواقها الشعبية واتحفنا بمخزون نفيس من فنونها وثقافتها وحرفها الشعبية، والغوص في لج بحرها المعطاء مع الصيادين التي ترتبط حياتهم بالبحر، مصدر رزقهم، وهم يرددون أناشيد وأهازيج الدحيف والدان.
لقد استأثرت شُقُرة بجُلِّ اهتماماته وأعماله البحثية وهو ما تشهد به نشاطاته الإبداعية وقائمة مؤلفاته، التي صدرت حتى الآن، وحفر في ذاكرة المكان، ووثق "الدحيف" و"الدان"، وأنقذ ما كان عرضة للنسيان، فكان وبحق ذاكرتها الحية، وصوتها المتزن، بل ومُتنها التاريخي الذي يعود إليه الباحثون حين يخذلهم التوثيق الرسمي.
وكانت جمعية شُقُرة الثقافية التي يرأسها منذ تأسيها عام 2003م بداية انطلاقته الجادة في توثيق تاريخ وتراث هذه المدينة الساحلية، التي عشقها حد الجنون، وهو بها المتيمُ والمفتون، كما عَنْوَن مؤلفه عنها (عنبرية بها مفتون- شُقُرة الإنسان والفن)، ورغم انتقال سكنه لظروف عمله الأكاديمي في جامعة أبين إلا أن الشوق يجذبه للعنبرية، ولا يغيب عنها طويلا مثلما لا تغيب هي عن البحر أو تبتعد عن أحضانه الدافئة، لذا يظل حاضراً مع أهلها وفنها وتراثها الذي يحمل عبء الاهتمام به من خلال تسنمه لرئاسة جمعية شُقُرة الثقافية، وأتذكر من نشاطاتها التي نظمتها في 12 ابريل 2018م حلقة نقاش بعنوان (شُقُرة في ذاكرة التاريخ-إطلالة على ماضيها وأهمية توثيق تاريخها) بالاشتراك مع مركزنا (مركز عدن للدراسات التاريخية) في أجواء امتزج فيها عبق التاريخ بنسائم بحر العرب الذي تعانقه شُقُرة وتستمد منه مقومات حياتها وازدهارها عبر التاريخ.
ويرأس بايونس تحرير مجلة "الدحيف" الصادرة عن جمعية شُقُرة الثقافية منذ عددها الأول الصادر في أكتوبر 2020م وحتى الآن، ومعه نخبة من الشُقُريين في مجالات الأدب والفن والثقافة والتراث الشعبي، وتعد المجلة أحد أبرز ثمار نشاط الجمعية حيث اهتمت بتاريخ وتراث شُقُرة وإحياء وتوثيق فن "الدحيف"، أيقونة شُقُرة المبهرة بأشعاره وأغانيه ورقصاته المتميزة. ويعد (ديوان شعر الدحيف.. تراث مدينة شُقُرة) الصادر عام 2022م ثمرة عظيمة، كونه وثق للأجيال ما كان عرضة للإهمال والنسيان من فن الدحيف والدان، وهو عمل رائع اشترك في تأليفه الرائعان: د.سعيد بايونس والأستاذ وضاح العزاني ابو زهدي ، وضبطه وراجعه أستاذ الأدب والنقد الباحث الأستاذ الدكتور سالم عبدالرب السلفي ، وهو الذي انجذب إلى فن الدحيف فضلاً عن اهتمامه بالتراث الشعري فأسهم هذا (القرن الجليل) مع صديقه النبيل بايونس في اخراج ديوان (القرون الجليلة) للشاعر عبدالله سعيد الخدش عام 2019م.
كما امتد اهتمام بايونس إلى خارج مسقط رأسه وعشقه الأول "شُقُرة" ليشمل محافظته "أبين" وبقية مناطق الجنوب، حيث أصدر عام 2005م ديوان (حزام الطارفة) للشاعر أحمد سعيد بلعيدي السعيدي ، وخواطر بلبل بنا الفنان عوض أحمد (اتجابروا يا ناس) بمشاركة زميله الباحث أديب علوي عام 2018م، و(الهوية الفنية الجنوبية ) عام 2023م، وشارك في كثير من الفعاليات والندوات العلمية في محافظات عدة.
ولعل ما يستحق الإشارة إليه والإشادة به مؤلفه التوثيقي الصادر مؤخراً " شُقُرة عبقرية الجغرافيا وإهمال التاريخ "، الذي وثق تاريخ وتراث شُقُرة، منتشلاً مصادره من منابع شتى تتبعها بعين الراصد والباحث الأكاديمي الرصين، فجاء الكتاب شاملاً لتاريخ شُقُرة ، الأرض والإنسان" ولمظاهر الحياة الإقتصادية والحضارية والثقافية – الأدبية والفنية ، والرياضية التي تتبعها بكل تفاصيلها، ووثق فيه تحت عنوان "كتابات عن شُقُرة " ما تتبعه ونقَّب عنه من مقالات مختلفة عن شُقُرة لباحثين وصحفيين وكتاب في فترات مختلفة يعود بعضها إلى ما قبل الاستقلال الوطني، حينما كانت شُقُرة حاضرة السلطنة الفضلية، فقدم لنا بهذا الإصدار مرجعاً شاملا لعبقرية الجغرافيا، الأرض والإنسان، وأزاح الستار عن ما لحق بتاريخ شُقُرة من إهمال ونسيان.
وكم هو رائع أن يأتي اليوم التكريم أكاديمياً للدكتور بايونس، بعد أن تم تكريمه شعبياً، قبل عام مضى، في حفلٍ جماهيري مهيب في مسقط رأسه ومحبوبته "العنبرية"، عرفاناً وتقديراً لجهوده البحثية التي كرسها لتراث وتاريخ وفنون شُقُرة خاصة، وأبين والجنوب عامة، من خلال إصداراته وأبحاثه ومشاركاته في الندوات والمؤتمرات العلمية، وكان لنا شرف مشاركته ذلك التكريم الشعبي، مثلما نتشرف بمشاركته اليوم في هذا الحفل التكريمي الأكاديمي، في جامعة أبين، ونحيي مبادرتها الكريمة ولفتتها الطيبة في تكريم هذا الباحث المحارب بقلمه وفكره في ساحات التاريخ والتراث الشعبي تقديرًا لما أغدقه علينا من فيض كرم إبداعه البحثي، الذي أضاء لنا جوانب تاريخ شُقُرة وفنونها وتراثها الزاخر، مجسداً في عطائه المتدفق العلاقة الروحية الوشيجة بينه وبين مسقط رأسه وشغفه العميق بتفاصيلها الدقيقة، وهو ما جعله وجهًا لا يُنسى في ذاكرة أهلها، ومرآةً لتراثها، وصوتًا لصمت تاريخها.
ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن بايونس وشُقُرة صنوان... لا يفرق بينهما الزمان، ولا يُقصيهما النسيان.
وأختتم مشاركتي في هذه الصباحية التكريمية الرائعة بأبيات قلتها عشية تكريمه الشعبي في تعقيب على "تصبيحة" له:
صباح الرضا والخير والعافيه
من يزرع الخير با يجني فوائد عديده
وخيرك سبق تخبر به الزافيه
سعيد أنتَ، وشُقُره فيك أجمل سعيده

#علي_صالح_الخلاقي

متعلقات