تغنى اللحجيون على (الرومبا) وعلى (السُّمبا) ، ودخلوا إلى الإيقاع (الكراتشي الهندي) من (التك)، وطرقوا إيقاعات يمنية أخرى كاليافعي والحضرمي والصنعاني، ...
الأربعاء - 11 سبتمبر 2024 - الساعة 10:30 ص بتوقيت العاصمة عدن
لحج " عدن سيتي " د جمال السيد
تغنى اللحجيون على (الرومبا) وعلى (السُّمبا) ، ودخلوا إلى الإيقاع (الكراتشي الهندي) من (التك)، وطرقوا إيقاعات يمنية أخرى كاليافعي والحضرمي والصنعاني، وارتادوا كل المقامات الموسيقية المعروفة ؛ فتذكروا القمر على مقام (الحجاز كار)، وناجوا القلب الجريح على (السيكا) وعلى (راحة الأرواح). طربوا على أصل المقام إذ لانَ لهم ، و"صوّروه" حين تمنّع. ضبطوا إيقاع الأصوات وأجزاءها وأدّوها على صورة موزونة محكمة؛ فحوت لحج كل "الزمن ".
على غرار الشعر المغربي قبالة الشعر المشرقي فإنك لا تكاد تسمع إيقاعاً أو اثنين عند أهل الجزيرة حتى تعلم أنك اتيت على كل ما عند القوم ــ لا ، بل متى أطلت النظر رددت ذلك الإيقاع إلى أصله ، واليمن أرومة العرب وأصل العرق نزار. ولحج هي البلدة الوحيدة من بين بلدان المسكونة التي تمتلك اكثر من عشرين إيقاعاً رئيسياً ورقصة أساسية. من هذه الإيقاعات ما تستقيم عليه رقصات للرجال كرقصة (الحناء) على إيقاع (الزف / هاجر + مرواس + رداد 6/8) ، ومنها ما تستند عليه رقصات للنساء كرقصة وإيقاع (المركّح / هاجر+ مرواسين 4/4) وفيه أنواع ومثال نغمتها في أغنية (مطر نيسان) للقمندان من مقام العراق ؛ وأخرى للجنسين معاً. ومن الإيقاعات ما هو رقص عقائدي كإيقاع (مزف الجذبة 4/4) ، وآخر احتفالي عرائسي كرقصة وإيقاع (الدحيف / كابر+هاجرين+ مراجع ورداد 12/8) ويؤديها الجنسان معاً ونغمتها في اغنية (ليتني ياحبيبي) للقمندان جنس بياتي على الدوكاه، وثالث زراعي مثال (الرزحة /هاجر+ مرواسين + مرفع 12/8) وتُرقص أيام الحصاد من قبل الجنسين ونغمتها أغنية (عذبني المكحل /يا بو زيد) للقمندان من مقام الحسيني ، وفيها لميزر على البياتي من ألحان خاله (صابور ناصر) أغنية (قصدي من الزين نظرة). ومن رقصات/إيقاعات لحج المتعددة: (الشدّة) و(الميحة) و(الهداني) و(الزبيري) ، و(ام سيمبا) ونغمتها أغنية (نجيم الصباح) و(العسيري) و(الركلة) للصبيحة و(الظاهرية) لسادة الوهط ، وغير ذلك كثير.
لقد تغنى اللحجيون على (الرومبا) في أغنية (وين عطفك)، وعلى (السُّمبا) في (يا حاكم زمانه) لعبد الله هادي سبيت. وطرقوا إيقاعات يمنية أخرى كاليافعي والحضرمي والصنعاني ، ودخلوا إلى الإيقاع (الكراتشي الهندي) من (التك)، وارتادوا كل المقامات الموسيقية المعروفة ؛ فتذكروا القمر على مقام (الحجاز كار)، وناجوا القلب الجريح على (السيكا) وعلى (راحة الأرواح). طربوا على أصل المقام إذ لانَ لهم ، و"صوّروه" حين تمنّع. ضبطوا إيقاع الأصوات وأجزاءها وأدّوها على صورة موزونة محكمة فحوت لحج كل " الزمن ".
هم الحضارمة يتناجون بالعيون في (ناجت عيوني عيونه والهوى نظرة) للأمير صالح مهدي فغنى محمد جمعه خان على وزنها وقافيتها: (يا خير ليله معك طابت بها السمرة)، ورأوا الحضارمة بعوّادية حداد الكاف (حيّا ليالي جميلة) فنظم صالح فقيه (مولى العيون الكحيلة أجل أحبه أجل) وغناها صالح يوسف الزبيدي.
احتوى المجلس اللحجي عودين: عود دخان ، وعود مِرنان. بخّروا مجالسهم بالعود والند وريحة المسك ، وعزفوا بالعود على مقامي: (الحسيني عشيران) و(الهزام). ضربوا بالأيدي على المرواس والهاجر ، وقرعوا بالعصي على (الطاسة) و(الكابر) ، ونقروا على الدفوف بأطراف الأصابع. لم يأبه أحد للمال ولا حفل بالذهب "ذي في الحزنات حمراء حروفه"، إنما استهواهم الغناء والموسيقى. غنوا ورقصوا وشربوا من كأس السعادة حتى الثمالة ؛ حدّ أن نزل المؤرخ اليوناني ساحل الأحمر فرآهم على تلك الحال فأرّخ بهم وأسماهم (أهل السعيدة). قال شاعر لحج المبدع عارف كرامة:
مساء الخير عين الفــن والمَغْنى
فنونش للملأ مأنس
بهـا الأنغــام مدروسه
صباح الخير نجيم الصبح والحنّاء
مَدَاره طيبها كم نَس
ختام الصبح تنفوسه
وامتلأت لحج بالمطربين ، وفاض منها ما شكّل لعدن نواة لضرب آخر. فخرج من قرية (الهجل) محمد عبده زيدي ، وتبعه من صبر (محمد صالح عزاني)، ومن الحوطة (محمد سعد عبدالله) ــ رحمة الله عليهم جميعاً.
لقد استحق (المرفع) و(الطاسة) محلهما في العلم اللحجي على عهد السلطنة العبدلية ؛ وأحتل مدخل الحوطة العود ، شعار لحج وماركتها المسجلة.
تتكون الموسيقى من عنصرين جوهريين هما الصوت والزمن. الصوت هو علم تركيب الأصوات المتآلفة لتصير لحناً يُتَغَنى به أما بواسطة الصوت الإنساني وإما بواسطة الآلات الموسيقية؛ والزمن هو لضبط إيقاع هذه الأصوات واجزائها وتأديتها على صورة موزونة محكمة. وبما أن الميزان قانون الخليقة فقد جعلوا للزمن الموسيقي موازين موسيقية خاصة تضبط وتقاس بها الأنغام. فالموسيقى على ذلك هي تناسب الأصوات والأزمنة. وكما للشعر بحور مختلفة ، كذلك للموسيقى موازين مختلفة لضبط حركات الإيقاع وأزمنته المتنوعة، ولها المقام الأول في التركيب الموسيقي والإنشاد والتلحين وتنسيق الأصوات الزمنية وتآليفها. وعلم الموازين هو الدعامة الكبرى في بناء الموسيقى ، فكل موسيقى خلت من اتزان الأوقات وائتلاف الأصوات هي موسيقى فاسدة ، ومن المستحيل أن تستقيم حالة موسيقية صحيحة بغير الإيقاع.
إنّ الإيقاع نبض الحياة في الموسيقى ، ومصدر النشوة والطرب. من هناك ، من بين " دمّات " (الكابر) وسكتات (الرداد) وترجيعات (المُراجع) و "تكّات" (المرواس)، ومن ضفاف حرف القصيدة المُنشَدة طلع (فضل ميزر).
على دقات الطبول وتردد الأوتار وترجيع الأنغام نشأ. كان جده لأمه (ناصر شونة) شاعراً ومغنياً في الموالد والأفراح ، وصنّاعاً للطبول ، وكان خاله المطرب الشهير (صابور ناصر) مودٍّ بارع لفن الدان اللحجي. استمع فضل صغيراً لجده وهو يضرب على (الكابر) و(الهاجر) في مولد (الهاروني) صاحب (الحاسكي)؛ ونشأ يشهد جده يمازح معاصرته (سبولة العمياء) مطربة النساء صاحبة (المحلة) بقوله:
سبوله ما تُبأ غير المحلّه
عند سُوْل الكبد والروح كلّه
وفي أحضان المطربين الأُوَل: فضل محمد اللحجي وصالح يوسف الزبيدي و(نور نجّارة) وخاله صابور ناصر شبّ فضل ميزر متعلماً فعازفاً حتى حذق فن الإيقاع وأدرك أسراره وأزمنته. مع ميزر (وحده) تحوّل الضرب على الإيقاع من مجرد ضرب فطري على الطبلة إلى عزف متقن له أصوله وحساباته. بل لقد مكنت ميزر درايته الكافية بضبط حركات الإيقاع وأزمنته المتنوعة من أن يغدو عازف الإيقاع الأول في كل جزيرة العرب. وإلى جانب معرفته بـ(الزمن) ، لميزر معرفة طيبة بـ(الصوت) عنصر الموسيقى الآخر. إنه يعرف تركيب الأصوات والألحان إذ هو مؤدٍّ متفرّد ، وله إلمام أولي بالمقامات الموسيقية.
ولما أسرع إيقاع الحياة وجرى الناس مجاراة لإيقاع زمانهم ، وكاد الزمن الموسيقي أن يقع على وجهه، انبرى ميزر وورثة القمندان المبثوثين في أصقاع المعمورة للأمر، وبذلوا كل الجهد للإبقاء على أنابيش الزمن الموسيقي الأصيل.
بقلب هذا الصامت الكبير ترقد معارف موسيقية جمة. يحوي قلبه الرهيف أسرار الإيقاع العربي القديم كله واليمن أصل العرب وفصلهم. لقد جاء (إبن ميزر) نتيجة طبيعية لتراكم معرفي ضارب في التاريخ. فلهذا (الفضل) الصاعد من دموم الإيقاع وسكتاته فضائل على الأغنية اللحجية يدركها ذوو الإختصاص. لقد ضبط إيقاعاتها الكثيرة المتنوعة وحفظها من العبث والتحوير، وحافظ على بقاء نكهتها الأصلية الموروثة ، إذ عمد لتحقيق ذلك إلى تسجيل عدد 23 أغنية لإذاعة عدن فكان بذلك اول المنتبهين لتوثيق الألحان إن لم نقل أوحدهم.
غنى ميزر من ألحان خاله صابور ناصر : (قصدي من الزين نظرة) رزحة على البياتي ، (يا ناسي تذكر) إيقاع تهامي ، (راجعوه يا ناس) للأمير صالح مهدي ، و(ياغائب فراقك صعيب). وغنى للقمندان: (تاج شمسان) و(مني مساك الخير)، ولعبدالخالق مفتاح: (بالعيون السود) وغنى لآخرين. وقد قدم فضل في أدائه للغناء اللحجي مثالاً رائعاً للفنان الواعي لسر النغمة والصوت والزمن ، وأشهد أنه يغني بمسئولية وإتقان يحسد عليهما. إن التدوين الموسيقي للأغنية اللحجية ينبغي أن ينبني على أداء هذا الرجل. ولفضل ألحان وله إضافات لا يفصح عنها ، ولكن المتذوق المختص يستطيع تمييزها بيسر، إذ يجد فيها نفَسه العذب ونغمته الحالية الحالمة.
ولفضل ميزر إلى تلك الميزات خصال حسنة كثيرة لعل أبرزها احترامه لفنه ، ذلك أنه بعيد عن الغرور والإدعاء، ولا يتحدث في امر يجهله، ولا يثبت على امر او قول غير متأكد منه كل التأكيد. في حديثه صدق وبساطة في التعبير وعفوية في "الطبع" والخاطر.
بمعية فيصل علوي نزل ميزر ضيفاً على الشاعرالمحضار ـ رحمه الله ، واعطى المحضار لفيصل لحن (فضيلة على العين) وذهب يسمعهما اللحن وقال (المحضار) إني لا أدري على أي نوع من الإيقاع سيؤدى فقد احترت ، فكان أن مسح ميزر ساعتذاك همَّ وحيرة الشاعر الحضرمي وعزف اللحن على إيقاع (العسكرية) فنهض (السيد) من محله ليقبل ميزر على رأسه ــــ و "بوسة السيد بركة".
لقد شكل فضل ميزر مع المطرب فيصل علوي ثنائياً لامعاً ، فلا يكون إطراب إلا باجتماعهما معاً على صرح الطرب ، ذلك ان الأغنية اللحجية تستقيم على أنامل ميزر ضابط حركات الزمن ، وعلى صوت فيصل الشجي النادر فيكتمل للأغنية عنصراها: الصوت والزمن.
يحبو ميزر اليوم نحو الستين وما تزال له أذن موسيقية سليمة ، وحنجرة حالية شجية، وهو لما يزل في مسيرة العشق يسير بقلب ملؤه الطرب والحب، شعاره: " أنا علي محلتي في اللوح مكتوب بختي".. ويقع علينا جميعاً واجب تكريم هذا الفنان الكبير. لقد قتله الشوق وأضناه بعادنا عنه وهو في حال ينطبق عليه قول الشاعر (الحوت)
تحاواني قتلني الشوق
تلافاني ، وعلّي فوق
كفـى ما البعـد أضناني
أنــا فـدوك تحـاواني
مازال فضل يحتل المقام الأول في فن الإيقاع بجزيرة العرب ، والإيقاع نبض الحياة في الموسيقى ومصدر النشوة والطرب. إنّ حفيد (ناصر شونة) وابن أخت (صابور ناصر) هو "الصوت والزمن" في موسيقى الأغنية اللحجية.
حشوان جريدم
نقلاً عن/ مدونة الأستاذ جمال السيد.
@إشارة