"اللاييكيّة" والعلمانيّة..
لفظ "العَلمانية" العربي قَلَبَ المعنى وحادَ عن القصد
الإثنين - 20 يناير 2025 - الساعة 09:05 م بتوقيت العاصمة عدن
الوطن العربب " عدن سيتي ". سعيد بنسعيد العلوي : متابعات
"اللاييكيّة" والعلمانيّة..
لفظ "العَلمانية" العربي قَلَبَ المعنى وحادَ عن القصد
العلمانِيَّةُ في التّداول العربي المُعاصِر كلمةٌ "سيّئةُ السّمعة" (مع تحية الإكبار والتّقدير لعظيمِنا نجيب محفوظ، إذ أَستعير العبارةَ من عنوانِ إحدى قصصه). وأحسبُ أنَّ السَّبَبَ الأساسي في السُّمعة السّيئة التي تلاحقُ لفظَ "العلمانية" في أحاديثِنا، الشّفوية والكتابية على السَّواء يُعزى الى أسبابٍ عميقةٍ يجملُ بنا اليوم أن نُنَقِّبَ عنها فنجلوها - عسانا نتخلّص منها.
أحسبُ أنَّ سوءَ الفهمِ الذي لا يزال يُلازمُ العلمانية يرجع إلى سببَيْن اثنَيْن. أولهما: عائق سيكولوجي لا يزال يعشِّشُ في المخيال الجَماعي العربي منذ ما يربو على القرن ونصف القرن (أي منذ بدء زمن ما ننعتُه بالنّهضة العربية). وثانيهما: ما استقرّ في البنيَة الثّقافية العربية، العميقة والمشتركة، على النّحو الذي نسَجَت به تلك البنية، بكيفيةٍ لاشعوريةٍ بطبيعة الأمر - كما هو الشّأن دومًا في تشكل البنيات العميقة.
وثمرةٌ للتَّآزُرِ بين عملِ السببَيْن، فإنَّ العلمانية تحضُر في الوِجدان العربي وفي الوعيْ الثقافي اللّاشعوري المشترك مقترنةً بالدّين دومًا، بيْد أنَّ الاقترانَ هذا اقترانُ سَلْبٍ، وبموجب ذلك فإنّ كلا الحدَّيْن يُلغي أحدهما الآخر ومن ثم وَقَرَ في الأذْهان أنّ العلمانية (على النّحو الذي تُدْرَكُ عليه) فهي دومًا إلغاءٌ للدّين واعتراضٌ عليه.
سوء الفهم كلّه يُرَدُّ إلى التّرجمة والتّعريب
ليس من الغريب في شيء، بناءً على ما ألمحنا إليه، أن يَرِدَ لَفْظَ "العلمانية" في أحاديثِنا وفي منتدياتِنا مقترنًا بالإلحادِ ونفْي الرّبوبيّة والاستهزاءِ بالدّين وأهلِه فتِلك نتيجةٌ منطقيةٌ، طبيعيةٌ، لعمل بنيةٍ ثقافيةٍ عميقةٍ تشكّلت في وجدانٍ غدا مُهَيَّئًا لذلك. طيلة عقودٍ متّصلة، منذ أوّل اتصالِنا (أو بالأحرى) اكتشافِنا للغرب في ثمانينيّات القرن التاسع عشر وحتّى زمننا هذا ارْتسمت في وعيِنا العربي الجَماعي صورةٌ للغربِ سِمَتُها التّشوّش وعدم الوضوح. و"الغرب في وعينا العربي الإسلامي المعاصر، تَمثّل لـ"غَيْرٍ" مخالفٍ لنا في كلّ شيء، لما كان "الغيْر" يمثل به في الوعيِ الثّقافي العربي الإسلامي في "عهد القوّة والازدهار" - وهذه مسألة أولى. والقصدُ بـ"العلمانية"، في التّداول العربي المعاصِر هو المُقابِل العربي للفظ Secularism الإنكليزي أو للفظ الفرنسي Laicité - وتلك مسألةٌ ثانيةٌ يُستحْسن أن تُفردَ بقولٍ توضيحي فيها بدورِها. وليس من غرضِنا اليوم الخوضَ في أيّ من المسألتَيْن إنّما نحن نريد، على وجه التّحديد، أن نقفَ عند محاولة التّعريب لكلا اللفظَيْن، ذلك أنَّ سوءَ الفهمِ كلّه يُرَدُّ إلى التّرجمة والتّعريب (الترجمة والتعريب يثيران أشجانًا شتّى - وما ذاك بقصدِنا اليوم).
تواضَعنا، منذ أوّل العهد بما نقول عنه إنّه "عصر النّهضة"، على تداولِ كلماتٍ نجعلها مقابلًا للكلمة الإنكليزيّة أو الفرنسيّة (من بين لغاتٍ أوروبيةٍ أخرى) وكان هذا أمرٌ منطقيٌ طبيعيٌ معًا. ومن أجل التّمثيل، أَسوق على ذلك مثلًا واحدًا لا أزيد عليه خشْية التّطويل. كان الشيخ رفاعة الطهطاوي شاهدًا في فرنسا على ثورة سنة 1830، وفي الحديث عنها نَعَتَهَا في كتابِه الشّهير ("تخليص الإبريز في تلخيص باريز") بـ"خروجِ الحرّيين". كان الأمر كذلك لأنّ كُلًّا من لَفْظِ "الثّورة" ولفظِ "الجمهوريّين"، كانتا مجهولتَيْن في التداول العربي المُعاصر، وإنّما الشّيخ الطهطاوي اجتهدَ في إيجادِ مقابلٍ لما يريد أن يُعَبِّرَ عنه في القول العربي، وفي القول العربي القديم كانت كلمةُ "الخروج" تطابِقُ، على الأقلّ تقارِبُ، القصدَ من "الثّورة" في خطابِنا المُعاصر. أمّا كلمة "الجمهورية" فقد كانت كلمةً غائبةً عن التداول العربي القديم لفظًا ومعنًى (لفظ "الجمهور" كان يعني المجموعة أو الفئة المتميزة من الناس: من ذلك "جمهور العلماء").
لفظ "العَلمانية" العربي قَلَبَ المعنى وحادَ عن القصد
اللفظان، الإنكليزي والفرنسي (secularism & laïcité) يفيدان، تاريخيًّا واشتقاقًا أيضًا، معنًى واحدًا: التّمييز بين عالَمَيْن اثنَيْن، عالَم الدّين (= الكنيسة، تحديدًا) وعالَم ما كان غيْر ذلك (= الدُّنيا أو الحياة الدّنيا)، وليس لكلا اللفظَيْن حمولةً أخرى غير ذلك. الفصل والتّمييز فصلٌ وتمييزٌ محايِدان، أو كما نقول اليوم، محضَ "توْصيف". والحقُّ أنّ البنية الثقافية "الغربية" تَقْبَلُ هذا الأمر وتقدِّرُه، والحقّ أيضًا أنّ البنية الثقافية العربية الإسلامية (والعربية الإسلامية المُعاصِرة، تلك التي ترتبط بـ"عصر النّهضة"، تجدُ عسرًا كبيرًا في ذلك). وما نودّ التّنبيه إليه، في حديثنا اليوم، هو أنَّ لفظَ "العلمانية" لفظٌ شنيعٌ - كما كان أجدادُنا العرب يقولون فهو تعريبٌ سيءٌ لكلا اللفظَيْن الفرنسي والإنكليزي.
ما استطاع لفظ "العلمانية" العربي أن يبلغَ القصدَ من اللفظَيْن الإنكليزي والفرنسي (secularim & laicité) بل إنَّه قد أساء إلى المعنى المُراد الإساءة الكاملة، إذ قَلَبَ المعنى وحادَ عن القصدِ ومن ثم أتى الالتباسُ الذي يشوبُ لفظَ "العلمانية" وهو ما نعتناه بالسُّمعةِ "السّيئة" للفظِ العربي. الأصحُّ، والأحقُّ أن نقولَ "اللاييكيّة" - في انتظار التَّفكير الجدّي واللّغوي الصحيح في إيجاد المقابِل اللّغوي العربي.
"عروبة 22"